فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ العسر يسرا إِنَّ مَعَ العسر يسرا}.
العسر: الضيق، والشدة..واليسر: السعة والرخاء..
وهكذا كان تدبير اللّه سبحانه وتعالى مع النبي الكريم، بدأ أمره بالعسر والضيق، ثم كانت عاقبة أمره إلى اليسر والسعة، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولى}، وإنما الأمور بخواتيمها..فما أجمل العافية بعد المرض، وما أطيب الصحة بعد الاعتلال، وما أهنأ الشبع بعد الجوع، والرىّ بعد الظمأ!! وهكذا في كل ما يسوء ويسر..إذا جاءت المسرة بعد السوء، عظم وقعها، وجمل أثرها، وعفّى على كل أثر للمساءة والمضرة:
كأن الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى ولم يك صعلوكا إذا ما تمولا!
وعكس هذا صحيح..فإنه ما أثقل المرض بعد العافية، والاعتلال بعد الصحة، وما أقسى الجوع بعد الشبع، والظمأ بعد الري..وهكذا في كل مساءة تعقب المسرة، حيث يذهب بها كل شيء كان جميلا طيبا، ثم لا يبقى إلا وجهها الكريه البغيض، يؤلم، وبورق، ويعضنى.. كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر... فالذين يمشون في أول حياتهم على الشوك، ويغسلون أجسادهم بعرق الكفاح والصبر، يجنون أطيب الثمرات، ويضعون أقدامهم على مواقع العزة والمجادة، ويتحلّون بحلل الكرامة والفخار..أما الذين يستقبلون الحياة مستنيمين في ظلها، متجنبين الخواض في غمراتها، متخففين من حمل أعبائها وأثقالها، فهيهات أن تسلمهم الحياة آخر الأمر إلى غير المهانة والضياع..
تريدين إدراك المعالي رخيصة ولابد دون الشهد من إبر النحل!
وهكذا الشأن فيما بين الدنيا والآخرة..فمن حمل نفسه على المكروه في الدنيا، نزل منازل النعيم والرضوان في الآخرة..ومن وضع فمه في ثدى الدنيا يرضع منها حتى يضع قدمه على طريق الآخرة- انقطع به مورد فطامه هناك، وكان من الهالكين..
وفى تكرار الآية، بدون حرف عطف، توكيد للخبر الذي ساقته، وتقرير للحكم الذي قضت به..
{فَإِنَّ مَعَ العسر يسرا إِنَّ مَعَ العسر يسرا}.
يقول المفسّرون والبلاغيّون: إن المعرفة إذا كررت كانت هي هى، وأن النكرة إذا كررت كان اللفظ الثاني غير الأول..وهنا يقولون: إن كلمة (العسر)- وهى معرفة- هي عسر واحد بعينه في الموضعين، وأما كلمة (يسر)- وهى نكرة- فإنها يسر بعينه في كل موضع، ومن هنا قالوا «لن يغلب عسر يسرين»- يعنون بذلك أن العسر دائما يواجهه يسران، وأنهما لابد أن يقهراه ويغلباه، ويأتون على هذا بحديث لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «لن يغلب عسر يسرين».
هذا وجه يراه العلماء في هذا التكرار..ووجه آخر، نراه نحن- واللّه أعلم- وهو هذه المعيّة (مع)، التي تحمل مع كل عسر يسرا مصاحبا له، مندسّا في كيانه.. {فَإِنَّ مَعَ العسر يسرا}- أي إن العسر- أىّ عسر- لا يلقى الإنسان إلا ومن محامله اليسر، الذي يعمل على مقاومته، ومصارعته حتى يقهره آخر الأمر، ويتركه صريعا، ليأخذ اليسر مكانه، متمكنا، لا ينازعه عسر! هكذا الشدائد تتولد منها دائما مواليد الخير، وتستنبت في أرضها أطيب الثمرات، وأكرمها، وأهنؤها..
وهناك سؤال: إذا كان مع العسر يسر، فهل العكس صحيح، وهو أن يكون مع اليسر عسر؟
وكلا..فإن العسر رحمة من رحمة اللّه..إنه من موارد الحق، والخير..
وما كان كذلك كان صفوا من كل كدر، خالصا من كل سوء..فاليسر لا يحمل في كيانه أبدا شيئا ما يكدره..إنه من العالم العلوي، أشبه بماء المطر، لا يخالطه شيء من الملح..أما العسر فهو أشبه بالماء الملح، يحمل في كيانه الماء العذب..
اليسر جوهر، والعسر عرض! ومن هنا نجد مع كل عسر يسرا، ولا نجد مع كل يسر عسرا..ومن هنا أيضا يلد العسر يسرا، ولا يلد اليسر إلا يسرا.
ومفهوم العسر واليسر هنا، هو المفهوم العالم المطلق لهما، لا المفهوم الذي يوزن بميزان شخصى، ويقوم على اعتبار فردى..وهذا المفهوم المطلق- للعسر واليسر- إذا أمعنا النظر فيه، نجد أنه لا عسر أصلا، وأنه لا يدخل في نظام الوجود العام، الذي ينتظم الموجودات كلها، ويجعل منها جميعا نغما متسق الألحان.. {ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ}..(3: الملك) وقوله تعالى: {فَإِذا فرغت فانصب وَإِلى رَبِّكَ فارغب}.
هو تعقيب على قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ العسر يسرا إِنَّ مَعَ العسر يسرا} أي أنه إذا كان من شأن العسر أن يصحبه يسر، ومن شأن النّصب والتعب أن تعقبمها الراحة والرضا، فجدير بك أيها النبي- كما هو جدير بكل إنسان- أنك إذا فرغت من أي موقع من مواقع الكفاح، والجهاد، فلا تركن إلى الراحة، بل افتح جبهة جديدة للكفاح والجهاد، فإنه بقدر ما يمتد بك هذا الطريق الشاق العسر، بقدر ما تحصل من خير، وبقدر ما تبلغ من علو شأن ورفعة قدر..
وقوله تعالى: {وَإِلى رَبِّكَ فارغب}- إشارة إلى أن هذا الجهاد والكفاح، وما تحتمل فيه النفس من نصب وتعب- إنما يعطى هذا الثمر الطيب، إذا كان متجهه إلى اللّه، وكانت غايته مرضاة اللّه، والرغبة فيما عنده..
أما النصب والتعب فيما لا يراد به وجه اللّه، والدار الآخرة، فهو عناء، وبلاء.
إن النصب والتعب في مغارس الحق والخير، يزكو نباته، ويطيب ثمره، ويكثر خيره، وأما النصب والتعب في أودية التيه والضلال، فذلك ما لا ينبت- إن كان له نبات- إلا الشوك والحسك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَإِنَّ مَعَ العسر يسرا (5)}
الفاء فصيحة تفصح عن كلام مقدر يدل عليه الاستفهام التقريري هنا، أي إذا علمت هذا وتقرر، تعلَمُ أن اليسر مصاحب للعسر، وإذ كان اليسر نقيض العسر كانت مصاحبةُ اليسر للعسر مقتضيةً نقضَ تأثير العسر ومبطلة لعمله، فهو كناية رمزية عن إدراك العناية الإلهية به فيما سبق، وتعريض بالوعد باستمرار ذلك في كل أحواله.
وسياق الكلام وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يُيَسر اللَّهُ له المصاعب كلَّما عرضت له، فاليسر لا يتخلف عن اللحاق بتلك المصاعب، وذلك من خصائص كلمة {مع} الدالة على المصاحبة.
وكلمة {مع} هنا مستعملة في غير حقيقة معناها لأن العسر واليسر نقيضان فمقارنتهما معاً مستحيلة، فتعين أن المعيّة مستعارة لقرب حصول اليسر عقب حلول العسر أو ظهور بوادره، بقرينة استحالة المعنى الحقيقي للمعية.
وبذلك يندفع التعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {سيجعل اللَّه بعد عسر يسرا} في سورة الطلاق (7).
فهذه الآية في عسر خاص يعرض للنبي، وآية سورة الطلاق عامة، وللبعْدية فيها مراتب متفاوتة.
فالتعريف في {العسر} تعريف العهد، أي العسر الذي عَهِدْتَه وعلمتَه وهو من قبيل ما يسميه نحاة الكوفة بأن (ال) فيه عوض عن المضاف إليه نحو قوله تعالى: {فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 41] أي فإن مع عُسرك يسرا، فتكون السورة كلها مقصورة على بيان كرامة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه تعالى.
وعد الله تعالى نبيئه صلى الله عليه وسلم بأن الله جعل الأمور العسرة عليه يسرة له وهو ما سبق وعده له بقوله: {ونيسرك لليسرى} [الأعلى: 8].
وحرف {إنْ} للاهتمام بالخبر.
وإنما لم يستغن بها عن الفاء كما يقول الشيخ عبد القاهر: (إنَّ) تغني غَناء فاء التسبب، لأن الفاء هنا أريد بها الفصيحة مع التسبب فلو اقتصر عَلى حرف (إنّ) لفات معنى الفصيحة.
وتنكير {يسرا} للتعظيم، أي مع العسر العارض لك تيسيراً عظيماً يغلب العسر ويجوز أن يكون هذا وعداً للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته لأن ما يعرض له من عسر إنما يعرض له في شؤون دعوته للدين ولصالح المسلمين.
وروى ابن جرير عن يونس ومعمر عن الحَسَن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما نزلت هذه الآية: {فإن مع العسر يسرا} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبشروا أتاكم اليسر لن يغلب عسر يسرين» فاقتضى أن الآية غير خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم بل تعمّه وأمته.
وفي (الموطإ) أن أبا عبيدة بن الجراح كتب إلى عمر بن الخطاب يَذْكُر له جموعاً من الروم وما يُتخوف منهم فكتب إليه عمر: أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله بعده فرجاً وإنه لن يغلب عسر يسرين.
وروى ابن أبي حاتم والبزار في (مُسنده) عن عائذِ بن شريح قال: سمعت أنس بن مالك يقول: «كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً وحياله حَجَر، فقال: لو جاء العسر فدخل هذا الحَجَر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيُخرجه فأنزل الله عز وجل: {فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا}».
قال البزار: لا نعلم رواه عن أنس إلا عائذ بن شريح قال ابن كثير: وقد قال أبو حاتم الرازي: في حديث عائذ بن شريح ضعف.
وروى ابن جرير مثله عن ابن مسعود موقوفاً، ويجوز أن تكون جملة: {فإن مع العسر يسرا} معترضة بين جملة {ورفعنا لك ذكرك} [الشرح: 4] وجملة: {فإذا فرغت فانصب} [الشرح: 7] تنبيهاً على أن الله لطيف بعباده فقدر أن لا يخلو عسر من مخالطة يسر وأنه لولا ذلك لهلك الناس قال تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة} [النحل: 61].
وروي عن ابن عباس: يقول «الله تعالى خلقت عسراً واحدًا وخلقت يسرين ولن يغلب عسر يسرين». اهـ.
و{العسر}: المشقة في تحصيل المرغوب والعملِ المقصود، واليسر ضده وهو: سهولة تحصيل المرغوب وعدم التعب فيه.
وجملة: {إن مع العسر يسرا} مؤكدة لجملة: {فإن مع العسر يسرا} وفائدة هذا التأكيد تحقيق اطراد هذا الوعد وتعميمه لأنه خبر عجيب.
ومن المفسرين من جعل اليسر في الجملة الأولى يسر الدنيا وفي الجملة الثانية يسر الآخرة وأسلوب الكلام العربي لا يساعد عليه لأنه متمحض لكون الثانية تأكيداً.
هذا وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لن يغلب عسر يسرين» قد ارتبط لفظه ومعناه بهذه الآية.
وصُرح في بعض رواياته بأنه قرأ هذه الآية حينئذ وتضافر المفسّرون على انتزاع ذلك منها فوجب التعرض لذلك، وشاع بين أهل العلم أن ذلك مستفاد من تعريف كلمة العسر وإعادتها معرفة ومن تنكير كملة (يسر) وإعادتها منكَّرة، وقالوا: إن اللفظ النكرة إذا أعيد نكرة فالثاني غير الأول وإذا أعيد اللفظ معرفة فالثاني عين الأول كقوله تعالى: {كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول} [المزمل: 15، 16].
وبناء كلامهم على قاعدة إعادة النكرة معرفة خطأ لأن تلك القاعدة في إعادة النكرة معرفة لا في إعادة المعرفة معرفة وهي خاصة بالتعريف بلام العهد دون لام الجنس، وهي أيضاً في إعادة اللفظ في جملة أخرى والذي في الآية ليس بإعادة لفظ في كلام ثان بل هي تكرير للجملة الأولى، فلا ينبغي الالتفات إلى هذا المأخذ، وقد أبطله من قبل أبو على الحسين الجرجاني في كتاب (النظم) كما في (معالم التنزيل).
وأبطله صاحب (الكشاف) أيضاً، وجعل ابن هشام في (مغني اللبيب) تلك القاعدة خطأ.
والذي يظهر في تقرير معنى قوله: «لن يغلب عسر يسرين» أن جملة: {إن مع العسر يسرا} تأكيد لجملة {فإن مع العسر يسرا}.
ومن المقرر أن المقصود من تأكيد الجملة في مثله هو تأكيد الحكم الذي تضمنه الخبر.
ولا شك أن الحكم المستفاد من هذه الجملة هو ثبوت التحاق اليسر بالعسر عند حصوله، فكان التأكيد مفيداً ترجيح أثر اليسر على أثر العسر، وذلك الترجيح عبر عنه بصيغة التثنية في قوله: «يسرين»، فالتثنية هنا كناية رمزية عن التغلب والرجحان فإن التثنية قد يكنى بها عن التكرير المراد منه التكثير كما في قوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير} [الملك: 4] أي ارجع البصر كثيراً لأن البصر لا ينقلب حسيراً من رَجعتين.
ومن ذلك قول العرب: لَبَّيْك، وسَعْدَيك، ودَوَاليك. والتكرير يستلزم قوة الشيء المكرر فكانت القوة لازِمَ لازِممِ التثنية وإذا تعددت اللوازم كانت الكناية رمزية.
وليس ذلك مستفاداً من تعريف {العسر} باللام ولا من تنكير (اليسر) وإعادته منكراً.
{فَإِذَا فرغت فانصب (7)}
تفريع على ما تقرر من التذكير باللطف والعناية ووعده وبتيسير ما هو عسير عليه في طاعته التي أعظمها تبليغ الرسالة دون مَلَل ولا ضجر.
والفراغ: خلو باطن الظرف أو الإِناء لأن شأنه أن يظرف فيه.
وفعل فرغ يفيد أن فاعله كان مملوءاً بشيء، وفراغ الإِنسان.
مجاز في إتمامه ما شأنه أن يعمله.
ولم يذكر هنا متعلق {فرغت} وسياق الكلام يقتضي أنه لازم أعمال يعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم كما أن مساق السورة في تيسير مصاعب الدعوة وما يحف بها.
فالمعنى إذا أتممت عملاً من مهام الأعمال فأقبل على عمل آخر بحيث يعمر أوقاته كلها بالأعمال العظيمة.
ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قفوله من إحدى غزواته: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» فالمقصود بالأمر هو {فانصب}.
وأما قوله: {فإذا فرغت} فتمهيد وإفادة لإِيلاءِ العمل بعملٍ آخر في تقرير الدين ونفع الأمة.
وهذا من صيغ الدلالة على تعاقب الأعمال.
ومثله قول القائل: ما تأتيني من فلان صلة إلا أعقبْتها أخرى.
واختلفت أقوال المفسرين من السلف في تعيين المفروغ منه، وإنما هو اختلاف في الأمثلة فحذفُ المتعلِق هنا لقصد العموم وهو عموم عرفي لنوع من الأعمال التي دل عليها السياق ليشمل كل متعلق عمله مما هو مهم كما علمت وهو أعلم بتقديم بعض الأعمال على بعض إذا لم يمكن اجتماع كثير منها بقدر الإِمكان كما أقر الله بأداء الصلاة مع الشغل بالجهاد بقوله: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك} إلى قوله: {كتاباً موقوتاً} في سورة النساء (102، 103).
وهذا الحكم ينسحب على كل عمل ممكن من أعماله الخاصة به مثل قيام الليل والجهاد عند تقوي المسلمين وتدبير أمور الأمة.
وتقديم {فإذا فرغت} على {فانصب} للاهتمام بتعليق العمل بوقت الفراغ من غيره لتتعاقب الأعمال.
وهذه الآية من جوامع الكلم القرآنية لما احتوت عليه من كثرة المعاني.
{وَإِلَى رَبِّكَ فارغب (8)}
عُطِفَ على تفريع الأمر بالشكر على النعم أمر بطلب استمرار نعم الله تعالى عليه كما قال تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم: 7].
والرغبة: طلب حصول ما هو محبوب وأصله أن يعدى إلى المطلوب منه بنفسه ويعدى إلى الشيء المطلوب بـ: (في).
ويقال: رغب عن كذا بمعنى صرَف رغبتهُ عنه بأن رغب في غيره وجُعل منه قوله تعالى: {وترغبون أن تنكحوهن} [النساء: 127] بتقدير حرف الجر المحذوف قبل حرف (أنْ) هو حرف (عَن).
وذلك تأويل عائشة أم المؤمنين كما تقدم في سورة النساء.
وأما تعدية فعل {فارغب} هنا بحرف {إلى} فلتضمينه معنى الإِقبال والتوجه تشبيهاً بسير السائر إلى من عنده حاجته كما قال تعالى عن إبراهيم: {وقال إني ذاهب إلى ربي} [الصافات: 99].
وتقديم إلى {ربك} على {فارغب} لإِفادة الاختصاص، أي إليه لا إلى غيره تكون رغبتك فإن صفة الرسالة أعظم صفات الخلق فلا يليق بصاحبها أن يرغب غير الله تعالى.
وحُذف مفعول (ارغب) ليعم كل ما يرغبه النبي صلى الله عليه وسلم وهل يرغب النبي إلا في الكمال النفساني وانتشار الدين ونصر المسلمين.
واعلم أن الفاء في قوله: {فانصب} [الشرح: 7] وقوله: {فارغب} رابطة للفعل لأن تقديم المعمول يتضمن معنى الاشتراط والتقييد فإن تقديم المعمول لما أفاد الاختصاص نشأ منه معنى الاشتراط، وهو كثير في الكلام قال تعالى: {بل الله فاعبد} [الزمر: 66] وقال: {وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر} [المدثر: 3 5]، وفي تقديم المجرور قال تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين: 26] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمَن سأل منه أن يَخرج للجهاد: «ألكَ أبَوان؟ قال: نعم: فقال ففيهما فجاهد».
بل قد يعامل معاملة الشرط في الإِعراب كما روي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كما تَكونُوا يُوَلَّ عليكم» بجزم الفعلين، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {فبذلك فليفرحوا} في سورة يونس (58).
وذكر الطيبي عن (أمالي السيد) (يَعني ابنَ الشَجَري) أن اجتماع الفاء والواو هنا من أعجب كلامهم لأن الفاء تعطف أو تدخل في الجواب وما أشبَهَ الجوابَ بالاسم الناقص، أو في صلة الموصول الفعلية لشبهها بالجواب، وهي هنا خارجة عما وضعت له. اهـ.
ولا يبقى تعجب بعد ما قررناه. اهـ.